ملفات رجل فكك الاتحاد السوفياتي أسمه ( غورباتشوف)
|
جرش-نت
قبل 20 عاماً، نظّم الشيوعيون المتشدّدون انقلاباً ضد ميخائيل غورباتشوف أسفر عن انهيار الاتحاد السوفياتي. تُظهر وثائق بقيت طي الكتمان في الماضي، حصلت عليها «شبيغل»، كم كان الرئيس السوفياتي الأخير يائساً خلال معركته في استعادة السلطة وكيف أنه توسّل ألمانيا للحصول على المال الضروري لإنقاذ بلاده.
«يستطيع العالم تنفُّس الصعداء. فطيف الشيوعية … قد زال». هذا ما قاله الرئيس الروسي بوريس يلتسين عن ذلك الحدث المهم. وكان قد طرد لتوّه غورباتشوف، الرئيس السوفياتي الأول والأخير، من منصبه. حاول غورباتشوف، الذي كان أيضاً قبل انهيار الاتحاد السوفياتي رئيس الحزب الشيوعي، أن يصلح البلاد خلال ستة أعوام قبل أن يطاح به في نهاية المطاف من خلال انقلاب نظّمة الحزب الذي كان يترأسه. لماذا فشل غورباتشوف؟ يمكن إيجاد تفسيرات لهذا السؤال في المستندات التي أخذها غورباتشوف معه بعد مغادرته الكرملين والتي يحتفظ بها اليوم ضمن أرشيفه الخاص. حصلت «شبيغل» على قسم كبير من هذه المستندات من مؤرّخ روسي ونسخت مقتطفات واردة فيها.
احتفظ غورباتشوف بالمستندات الرسمية المتعلّقة بولاية حكمه. إذ كان قد اصطحبها معه عندما أعلن استقالته من منصبه في نهاية عام 1991 وتبرّع بها إلى المؤسسة التي تحمل اسمه. ومنذ ذلك الحين، حُفظ ما يقارب
الـ 10000 مستند في مقرّ المؤسسة في لينينغراد بروسبيكت 39 في موسكو. وقد شملت هذه المستندات الأرشيف الخاص بمستشاريْ السياسة الخارجية اللذين عملا معه وهما فاديم زغلادين وأناتولي تشيرناييف. وصوّرت المرحلة الأخيرة من التجربة الشيوعية. كذلك تضمّنت محاضر المفاوضات التي أجريت مع قادة أجانب، وتوصيات مكتوبة بخط اليد من المستشارين إلى الرئيس غورباتشوف، وملاحظات سجّلها المتحدّث خلال المكالمات الهاتفية وتسجيلات لتلك المكالمات، وملاحظات سرّية دوّنها سفراء وتقارير مختصرة لنقاشات دارت في المكتب السياسي.
وردت في المذكرات الاستشارات والنصائح التي كانت تُسدى إلى الرئيس السوفياتي حول إنهاء الحرب في أفغانستان وطرق التعامل مع اليهود الراغبين في الهجرة، والأسباب التي رفض من أجلها الاجتماع بالرئيس الفلسطيني آنذاك ياسر عرفات وتجنّب محاكمة الطيار الألماني الشاب ماتياس روست الذي أنزل طائرته الخفيفة بالقرب من الساحة الحمراء من دون إذن السلطات الروسية واستقبله عوضاً عن ذلك في الكرملين.
بالإضافة إلى ذلك، شملت هذه المستندات تقارير وردت من مخبرين موجودين داخل قيادة الحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية، تصف مدى سوء الأحوال فيها وتعطي معلومات مفصّلة عن الذين لا يزال يمكن الاعتماد عليهم في المكتب السياسي في برلين الشرقية. كذلك وردت تقارير عمّا كتبته مجلة Paris Match عن رايسا وعمّا قالته المغنية آلا بوغاتشوفا لإحدى الصحف الألمانية عن سياسة البريسترويكا التي انتهجها غورباتشوف.
تجعلك قراءة المستندات تعيش تفاصيل تلك الفترة. آنذاك، وقف غورباتشوف على رأس بلد مريض وراح يشاهده وهو يختنق نتيجة حجمه الكبير ورفض نظامه البيروقراطي أي تغيير. كذلك تُظهر المستندات أنه حتى في ظل حكم غورباتشوف، كانت البيروقراطية غير فاعلة.
مثلاً، يشتكي أناتولي تشيرناييف، مساعد الرئيس غورباتشوف، من القادة غير الكفوئين في الحركة الشيوعية العالمية مثل رئيس الحزب الشيوعي الفرنسي جورج مارشيه («حصان ميّت») و رئيس الحزب الشيوعي في الولايات المتحدة الأميركية غوس هال (« شخص مادي ذو نزعة عامة»). ومع ذلك، كانت موسكو لا تزال تدفع الملايين لتدعم ممثليها في مختلف أرجاء العالم.
في ذلك الوقت، كانت الأسواق في الاتحاد السوفياتي قد نفدت من البيض والسكر. كانت الأوضاع متردّية لدرجة أن تشيرناييف اضطرّ في سبتمبر 1988 الى تقديم طلب خطيّ للحصول على هاتف في شقة سائقه نيكولاي نيكولايفيتش مايكوف، كي يستطيع الأمين العام الوصول إليه.
يُلاحظ أيضاً أن «شبيغل» ذُكرت على نحو متكرّر في المستندات الداخلية من أرشيف غورباتشوف. فعلى سبيل المثال، كشفت مذكرة ترقى إلى يونيو 1987 أن تشرناييف كان منزعجاً على نحو واضح من الأسئلة الأربعة والخمسين التي أرسلها صحافيون في الصحيفة إلى زعيم الكرملين والتي وصفها بـ«الأسئلة الوقحة». وقد شكّك في أن تكون المقابلة التي طلبت «شبيغل» إجراءها مع غورباتشوف عبارة عن «تحقيق». في المذكرات، كتب تشيرناييف أنه يتعيّن على الكرملين «أن يرفض رفضاً قاطعاً» هذا الطلب. وعليه، خُتم الطلب بختم كُتب عليه «طلب معاد إلى صاحبه بعد رفضه». هكذا، رُفض الطلب ولم تجرَ المقابلة. واليوم بعد مرور 24 عاماً، بات سبب الرفض هذا واضحاً.
مستندات… من المحرّمات
استخدم غورباتشوف لاحقاً بعضاً من المستندات في كتبه، ما أزعج القيادة الحالية في الكرملين. مع ذلك، ما زالت أوراق كثيرة من المحرّمات. ويعزى ذلك جزئياً إلى أنها ترتبط بقرارات أو أشخاص لا يزال غورباتشوف غير راغب في الحديث عنهم. لكن يُعزى الأمر بمعظمه إلى أن هذه المستندات لا تتناسب والصورة التي رسمها غورباتشوف عن نفسه.
خلال رحلة بحث إلى مؤسسة غورباتشوف، نسخ المؤرخ الروسي بافيل سترويلوف سرّياً حوالى 30000 صفحة من مواد تحتفظ بها المؤسسة في أرشيفها وقدّمها إلى «شبيغل».
تكشف المستندات شيئاً يفضّل غورباتشوف عدم الحديث عنه وهو اقتياده إلى التصرّف وفقاً للتطورات في الدولة السوفياتية المحتضرة وأنه غالباً ما كان يفقد السيطرة على زمام الأمور في ظل الفوضى. وتظهر هذه الوثائق أنه كان رجل دولة ذا وجهين فهو كان يعقد أحياناً صفقات مع المتشددين في الحزب والمؤسسة العسكرية خلافاً لما كان يصرّح به.
لقد أثنى الغرب على غورباتشوف لعدم مقاومته بقوة انهيار الاتحاد السوفياتي. في الواقع، لا يزال غير واضح حتى اليوم ما إذا كان زعيم الكرملين قد فرض عقوبات عسكرية على الجورجيين والأذربيجانيين والليتوانيين الذين تمرّدوا على الحكومة المركزية في موسكو بين عامَي 1989 و1991. وعندما قمعت القوات السوفياتية بعنف التظاهرات، سقط 20 قتيلاً في جورجيا، و143 قتيلاً في أذربيجان و14 قتيلاً في ليتوانيا، ناهيك بالحروب والاضطرابات في كل من ناغورنو- كراباخ
و ترانس- دنيستار وآسيا الوسطى.
لم ينسَ كثر المأساة التي وقعت في العاصمة الجورجية تبليسي في مساء 9-8 آبريل 1989 عندما استخدم جنود روس رفوشاً حادة وغازاً ساماً لتفريق مسيرة احتجاج في المدينة.
في هذا الإطار، ادّعى غورباتشوف أنه لم يُبلَّغ بالحادثة إلا بعد مرور ست ساعات على وقوعها. لم يعطِ الرئيس السوفياتي الجيشَ وجهاز الاستخبارات أوامر واضحة تطلب من هذه القوات ضبط النفس في هذا النزاع المشتعل.
لكن عندما التقى غورباتشوف هانس- جوشين فوغيل، الذي كان آنذاك زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي المحسوب على اليسار المتوسّط في ألمانيا، في 11 آبريل أي بعد يومين من عمليات القمع الدموية للاحتجاجات، سعى إلى أن يبرّر لمحاوره الألماني مقاربة المتشدّدين. وقد عمد غورباتشوف في ما بعد إلى محو المقطع التالي من نسخة محضر الحوار مع فوغيل التي نُشرت باللغة الروسية والتي جاء فيها:
سمعنا عن الأحداث في جورجيا. أعداء الاتحاد السوفياتي المعروفون قد اجتمعوا هناك. لقد أساؤوا إلى العملية الديمقراطية وهتفوا بشعارات استفزازية حتى أنهم طالبوا بانتشار قوات الناتو في الجمهورية. لقد تعيّن علينا أن ننتهج مقاربة صارمة في التعامل مع هؤلاء المغامرين وفي الدفاع عن البريسترويكا التي هي ثورتنا.
كان «أعداء الاتحاد السوفياتي المعروفون» في الواقع مدنيين سلميين. والجدير ذكره أنه من أصل 20 جورجياً قتلوا في تبليسي، كانت ثمة 17 امرأة.
أظهرت ملاحظة ذُكرت خلال اجتماع للمكتب السياسي عُقد في 4 أكتوبر 1989 والتي عرف من خلالها غورباتشوف أنه قُتل 3000 متظاهر في ساحة تيانانمين في بيجين في شهر يونيو من العام نفسه، أن غورباتشوف كان مستعداً لبروز حركات مقاومة لخططه الإصلاحية وأنه لم يكن مستبعداً بالضرورة الحاجة إلى اتخاذ إجراءات عنيفة. وفي هذا الإطار، قال غورباتشوف:
{علينا أن نكون واقعيين. يقولون إن عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم. ونحن كذلك علينا أن ندافع عن أنفسنا. وما الخطب في أن يسقط 3000 قتيل؟}
صحيح أن محضر هذا اللقاء قد نُشر في وقت لاحق، إلا أن هذا المقطع لم يرد فيه.
إراقة دماء
في عامَي 1990 و1991، افترض غورباتشوف أن عدداً صغيراً من السياسيين البارزين في الغرب قد يسأله عن دوره في النزاعات الدموية التي حصلت بين القوات الروسية والجمهوريات السوفياتية المطالبة باستقلالها. في تلك الأسابيع، كمن شغل الأميركيين والأوروبيين الغربيين الشاغل في معرفة ما إذا كان السوفيات سينسحبون فعلاً من أوروبا الشرقية. ونتيجة لذلك، سمح هؤلاء لغورباتشوف بأن يكذب عليهم بقوله إن موسكو حاولت إيقاف حركة دول البلطيق الاستقلالية في آخر دقيقة.
في يناير 1991، وبعد ضغوطات مورست من جهاز الاستخبارات والجيش، وافق غورباتشوف على ما يبدو على ما كان أساساً مشروعاً لا طائل منه وهو إعلان قيام حكم رئاسي في ليتوانيا خاضع لسيطرة موسكو. وكما جرى ذات مرّة في بودابست وبراغ، طلب «عمّال» الاتحاد السوفياتي الأوفياء من موسكو أن ترسل القوات لمساعدتهم، وهذا ما حصل بالضبط هذه المرّة. ففي 13 يناير، توجّهت وحدات خاصة من الجيش السوفياتي ومن أمن الدولة، بالدبابات نحو مبنى التلفزيون الرسمي في فيلنيوس واقتحمت المحطة وقتلت 14 شخصاً.
وفي محادثة هاتفية أجراها غورباتشوف مع الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الأب قبل يومين من أحداث فيلنيوس، نفى بشكل قاطع رغبة موسكو في التدخل في فيلنيوس:
بوش: أنا قلق بشأن مشاكل بلادك الداخلية. بصفتي مراقباً خارجياً، كل ما أستطيع قوله لك هو أنه إذا استطعت الحؤول دون استخدام القوة، سيحسّن ذلك علاقاتك بنا.
غورباتشوف: لن نتدخّل إلا إذا حصلت إراقة دماء أو إذا وقعت اضطرابات لا تهدّد دستورنا فحسب إنما حياة البشر أيضاً. أتعرّض الآن لضغوطات كبيرة لإدخال الرقابة الرئاسية في ليتوانيا. ما زلت ليناً في التعاطي مع هذه المسألة ولكن في حال شعرت بوجود خطر يحدق بأمتي فلن أتردد في اتخاذ إجراءات صارمة.
من جهة أخرى، امتنع المستشار الألماني هيلموت كول، الذي طالب باستمرار باسم حكومته بحق الشعوب القومية في تقرير مصيرها، عن توجيه أي نقد إلى غورباتشوف. وعندما تحدّث الزعيمان في محادثة هاتفية جرت بعد مرور خمسة أيام على الأحداث الدموية في فيلنيوس، لم يتطرّق المستشار الألماني إلى التدخّل السوفياتي العسكري إلا تطرّقاً سريعاً ومقتضباً:
غورباتشوف: بدأ الجميع الآن يطرح السؤال التالي: هل غيّر غورباتشوف مساره؟ هل ولّت أيام غورباتشوف الجديد وانتقل من اليسار إلى اليمين؟ أجيب عن كل هذه الأسئلة بمنتهى الصراحة: لن نغيّر سياستنا.
كول: كوني سياسياً، أعرف جيداً أنه أحياناً لا بد من القيام بمناورات مراوغة إن كانت لدى السياسي أهداف سياسية معيّنة يبغي الوصول إليها.
غورباتشوف: هيلموت، أنا على دراية بتقييمك للحالة وأحترم تقييمك هذا أشد الاحترام. إلى اللقاء.
في تلك الأيام، خسر غورباتشوف ما تبقى من المصداقية التي كان يوحي بها لمؤيديه. وقد كتب أناتولي تشيرناييف، صديق غورباتشوف المقرّب، بكل مرارة وخيبة أمل في دفتر يومياته: {إنه يقف إلى جانب الذين ارتكبوا عمليات القتل في فيلنيوس». وقد أملى تشيرناييف على سكرتيرته رسالة طويلة موجّهة إلى غورباتشوف كانت أشبه بتصفية للحسابات:
ميخائيل سيرغييفيتش! الخطاب الذي ألقيته في مجلس السوفيات الأعلى (حول الأحداث في فيلنيوس) أعلن نهاية مسيرتك. لم يلِق هذا الخطاب برجل دولة عظيم، بل كان مرتبكاً ومتلعثماً. لقد امتنعت فيه عن التصريح عما تنوي القيام به. وبدا أنك لا تعرف رأي الناس فيك،. إنهم لا يتحدّثون سوى عن «غورباتشوف وعصابته». ادعيت أنك ترغب في تغيير العالم والآن أنت تدمّره بيديك. دوّنت السكرتيرة كل كلمة قالها تشيرناييف، إلا أنها اتهمته لاحقاً بخيانة غورباتشوف. خُبّئت هذه الرسالة في مكان آمن بدلاً من أن تُرسل إلى غورباتشوف.
أعظم مفكّري عصره
ورد اسم المستشار الألماني السابق هيلموت كول بشكل بارز في مستندات غورباتشوف. فقد كان كول مديناً إلى حدّ كبير للرئيس الروسي آنذاك لأن الأخير كان رفض نشر الدبابات في برلين الشرقية لمنع انهيار ألمانيا الشرقية في خريف عام 1989. كذلك لم يقف في طريق عملية إعادة توحيد الألمانيتين التي تمّت في خريف عام 1990. في الواقع، نظراً إلى تخوّف الكثيرين من الرفاق المؤيدين له، لم يعارض غورباتشوف حتى انضمام ألمانيا الموحدة إلى حلف الشمال الأطلسي الناتو.
وفي العام 1991، حظي كول بفرصة لرد الجميل لغورباتشوف، وهذا ما كان يتوقعه بالضبط الأخير منه. في تلك المرحلة، كان كول، في جوانب عدّة، أمل غورباتشوف الأخير.
ويبدو أن الرئيس السوفياتي قد نسي أنه ظل يعتبر المستشار الألماني لسنوات عدة سياسياً ريفياً وضيعاً. وفي الأول من نوفمبر 1989، عندما استقبل غورباتشوف في الكرملين إيغون كرينز – خلف رئيس ألمانيا الشرقية إيريك هونيكير وآخر رئيس شيوعي عرفته ألمانيا الشرقية- قال له:
يبدو أن كول ليس أعظم مفكّري عصره، إلا أنه يتمتّع ببعض الشعبية في بلاده ولا سيما في أوساط المواطنين العاديين.
ويبدو أن الرسالة الكامنة وراء ذلك الكلام كانت: إنه شخص لا يثير القلق، لذا لا تقلقوا بشأنه. وكان غورباتشوف نفسه قد تجاهل كول لسنوات. كان يعتبره أيضاً بوقاً للأميركيين وكان يتجنّب عمداً لفترة طويلة من الزمن زيارة ألمانيا الغربية خلال رحلاته إلى أوروبا.
لاحقاً، نُشرت محاضر الاجتماع الذي دار بين كرينز وغورباتشوف في موسكو وقد أصبحت هذه المستندات متاحة للجمهور في ألمانيا. بيد أن المقطع الذي يذكر ما قاله غورباتشوف عن كول حُذف من النسخة الروسية. لقد شعر غورباتشوف بإحراج من كلامه ما دفعه إلى محوه.
كسر الجليد
في صيف 1990، تغيّرت علاقة غورباتشوف بكول بعدما ناقش الرجلان تفاصيل إعادة توحيد ألمانيا. وأخيراً انكسر الجليد بينهما عندما سافر غورباتشوف وزوجته رايسا إلى ألمانيا في شهر نوفمبر الماضي وزارا كول في منزلهما الكامن في اوجرشيم في ألمانيا الغربية. في الواقع، كان غورباتشوف يحتاج إلى المستشار الألماني النافذ لا سيما وأن الوضع الداخلي في بلاده كان أصبح آنذاك خطيراً. كانت المتاجر تعاني نقصاً في المواد الغذائية كافة من لحم وزبدة وحليب بودرة، وكانت شعبية غورباتشوف تتراجع شيئاً فشيئاً.
في تلك الأشهر، كان غورباتشوف يتصل أكثر فأكثر لمناقشة الأوضاع مع «صديقه هيلموت» الذي أصبح فجأة مستشاره السياسي. كانا يستعملان خطاًَ هاتفياً خاصاً وبالكاد تم التطرّق لاحقاً في كتب غورباتشوف إلى أي من هذه المكالمات التي جرت بين موسكو وبون. والأمر سيان بالنسبة إلى كول الذي مرّ على هذه المكالمات الهاتفية في سيرة حياته مرور الكرام.
كانت المكالمات مليئة بشكاوى غورباتشوف وتحمل في طياتها صرخات استغاثة يطلقها رجل غريق، كلمات بذل الرجل الذي كان في ما مضى الرئيس السوفياتي المتفاخر بنفسه، قصارى جهده لإخفائها.
آنذاك، كان يريد غورباتشوف من كول أن يشجّع الغرب على إنقاذ الاتحاد السوفياتي، وأن يصوّر الانهيار الوشيك على أنه كارثة قد تجرّ العالم بأسره إلى الفوضى. مما لا شك فيه أنه أمِلَ في الحصول على دعم كول له في معركته ضدّ خصمه الأقوى بوريس يلتسين.
تحدّث الرجلان ثانيةً مع بعضهما عبر الهاتف في مساء 20 فبراير 1991.
كول: مرحبا ميخائيل. هل قدمت استقالتك مثلما طلب يلتسين؟
غورباتشوف: أعتقد أنه يشعر بأنه يفقد السلطة وبأنه أصبح معزولاً شيئاً فشيئاً. لقد كان ظهوره التلفزيوني البارحة تصرّفاً يائساً أو غلطة تنم عن غباء. يلتسين مدمّر بطبيعته. لم يعد لديه شيء بنّاء ليقدّمه. إنه يستغلّ الوضع الراهن الصعب ويحاول إثارة معركة سياسية.
كول: إن هذا الأمر لصالحك.
غورباتشوف: خلال اجتماع مجلس السوفيات الأعلى لدول الاتحاد السوفياتي الذي انعقد اليوم، قال أحدهم إن مثل هذه الوسائل لا تليق برجل في منصبه. سيتوجب عليه على الأرجح سحب كلامه هذا. وقد اتخذ كل ّمن رئيس كازاخستان ورئيس مجلس السوفيات الأعلى في أوكرانيا موقفاً منه.
كول: يصب هذا الأمر في مصلحتك. أشعر بأنك أفضل حالاً الآن. أنا سعيد بذلك.
وبعد مرور أقل من أربعة أشهر، صوّت أكثر من 45 مليون ناخب لصالح يلتسين الذي كان يفترض به أن يكون موضع خلاف وليس إجماع، ليصبح أول رئيس للاتحاد الروسي. وقد جاء هذا الحدث ليعلن بداية قيادة ثنائية تحمل بشائر انتهاء السوفياتية. وفي محادثة هاتفية أجريت في 30 آبريل، طمأن كول رئيس الكرملين قائلاً:
كول: أبذل قصارى جهدي كي أحشد لك الدعم في أوروبا الغربية. وسأفعل الأمر ذاته في واشنطن بعد أسبوعين. عليك أن تعي أن ثمة أشخاصاً ينظرون بسلبية إلى وضعك.
غورباتشوف: أعي ذلك.
كول: اليك ما يُحكى عنك في الأوساط السياسية: صحيح أن غورباتشوف رجل سياسة قوي، لكنه لن يحقق الأهداف التي رسمها. لذلك، أحتاج إلى الحصول على معلومات صريحة منك.
غورباتشوف: أنت تعلم أن كثراً من بين أصدقائنا الأميركيين الذين يتهامسون أموراً عني. يقولون مثلاً: أنظروا كيف أن غورباتشوف يدعم بقاء الاتحاد السوفياتي فيما أن يلتسين قد يمنح دول البلطيق وسائر الجمهوريات استقلالها. أنظروا كيف أن يلتسين يشجّع الملكية الخاصة بينما يفضّل غورباتشوف الاقتصاد المختلط.
كول: سأوضح هذا الأمر لقادة أوروبا الغربية وللقادة الأميركيين.
في 5 يوليو، عندما كان يلتسين قد أصبح رئيس روسيا بحكم الواقع وكان ينتظر عملية تنصيبه، التقى كول غورباتشوف في مقرّ الحزب الشيوعي الأوكراني الصيفي في ميزغوريي. في تلك اللحظة، لم يكن باستطاعة أي منهما أن يعرف أنه بعد مرور ستة أشهر، ستصبح أوكرانيا دولة مستقلّة.
وفي طريقهما من مطار كييف إلى ميزغوريي، استعرض كول أسوأ سيناريو:
كول: فكرت في الأمر: ماذا سيحصل إن ترك غورباتشوف فجأة الرئاسة وحلّ يلتسين مكانه؟ يستحيل طبعاً ترك البلاد لرجل من أمثال يلتسين.
غورباتشوف: إننا نتّفق حتماً على هذه النقطة.
كول: ماذا ستفعل عندما ستترك دول البلطيق الاتحاد في النهاية؟
غورباتشوف: يمكنها أن تفعل ذلك. من الصعب تغيير أفكارها حول مفهوم السيادة. إذا أرادت هذه الدول الانسحاب، ثمة طريقة واحدة لفعل ذلك ألا وهي الاحتكام إلى الدستور. لكنها في حقيقة الأمر مرتعبة من انتهاج المسار الدستوري الطبيعي.
كول: لن تستطيع هذه الدول طبعاً الالتزام بالبقاء في الاتحاد. من جهة أخرى، يجب أن يكون واضحاً لدول البلطيق أنه لا خيار لديها سوى ذلك المنصوص عليه في الدستور وأن دعم الغرب الكلامي لها لن يغيّر شيئاً.
لم يعمد أيّ من الزعيميْن إلى نشر تفاصيل هذا الحوار لأن رأي كول بيلتسين كان بسلبية رأي غورباتشوف به. ومن جملة الأمور التي فضّل المستشار الألماني عدم نشرها هو الفارق الواضح بين دعمه العام لمبدأ تقرير المصير وموقفه الحالي. ذلك أن كول لم يكن يؤيّد تأييداً فعلياً انسحاب جمهوريات البلطيق السوفياتية من الاتحاد السوفياتي وطلب أن تحظى مثل هذه القرارات بموافقة البرلمان في موسكو.
كول: أي شخص يؤيد عملية تفكيك االاتحاد يعرّض بذلك السلام للخطر. لا بد من دعم مسار الإصلاح الذي ينتهجه غورباتشوف. إذا جاء إلينا يلتسين، سأقول له الشيء نفسه.
غورباتشوف: كلا، هم عملياً يشجعونه. فهو في نظرهم مصلحٌ.
كول: إذا جاء يلتسين إلى ألمانيا، فسيكون ذلك في زيارة عمل. يكمن أهم هدف لديّ في منعكما من التهجّم على بعضكما.
غورباتشوف: لعلّه قد يكون من الأفضل عدم توجيه دعوة له باسم المستشار الألماني؟ أعتقد أنه على شخص آخر غير المستشار أن يدعوه إلى ألمانيا وأن ينضم بعدئذ المستشار إلى الاجتماع وكأنها صدفة لم يحسب لها حساب.
كول: حسناً، إنها فكرة جيّدة.
تغطية النفقات الجارية
بعد أسبوعين، سافر غورباتشوف إلى لندن ليحضر، للمرة الأولى، قمة الدول الصناعية الرائدة السبع، وليطلب ضمّ بلاده إلى نادي الاقتصادات الكبيرة. كان كول قد مهد له الطريق على رغم احتجاجات الأميركيين واليابانيين. في الواقع، سافر غورباتشوف إلى لندن ليطالب بمبلغ لا يقلّ عن 30 مليار دولار لإنقاذ الاتحاد المريض ورئيسه. وفي هذا الإطار، أظهرت تقارير كثيرة كُتبت في تلك الأسابيع- والتي لم ينشر غورباتشوف لاحقاً أياً منها- أنه كان يعتبر توسّل المال عملاً مهيناً.
وخلال الاجتماع في كييف، وبّخ غورباتشوف رجلاً ينتمي إلى حاشية كول أصبح لاحقاً أحد معارف غورباتشوف الأساسيين: كان ذلك الرجل هورست كولر، الذي أصبح في ما بعد رئيس ألمانيا، والذي كان آنذاك سكرتير الدولة في وزارة المالية الألمانية و{مندوب» كول في قمة الدول السبع.
عندما دعا كولر السوفيات إلى التقيّد بشروط صندوق النقد الدولي، أجاب رئيس الكرملين بغضب: «الاتحاد السوفياتي ليس كوستاريكا. المنحى الذي سيتخذه التاريخ اليوم يعتمد على تصوّركم لعلاقتكم بنا».
وفي ما يتعلّق بإدراج الاتحاد السوفياتي في خطة مارشال، وصف غورباتشوف هذه الخطة بأنها «عودة إلى الغطرسة القديمة والتي لا يستطيع بموجبها قطار الاقتصاد السوفياتي صعود الجبل من دون محرّك الرأسمالية».
في الحقيقة، كان ذلك المحرّك الخيار الوحيد المتبقّي لدى السوفيات. كانوا يشعرون عملياً بنشوة الانتصار معتبرين أن لدى المستشار الألماني القوي القدرة على جعل الأوضاع تميل الى صالحهم. وفي كييف، كتب تشيرناييف، مستشار غورباتشوف:
أٌعطيت الصداقة الجديدة مع الألمان جرعة أخرى من الثقة. إذا سارت الأمور على نحو جيد مع العامل السوفياتي- الألماني، سيساعد ذلك في تحديد مصير أوروبا والسياسة العالمية.
وخلال رحلة العودة إلى موسكو، كتب غورباتشوف على متن الطائرة:
كول… سيفعل كل ما في وسعه لمساعدتنا في أن ننهض وأن نصبح قوة خارقة حديثة. إنه قلق للغاية بشأن أوكرانيا. وبالنسبة إليه، ولّى زمن الهتليرية.
تردي الوضع الاقتصادي
وبحلول سبتمبر، وبعد ثلاثة أسابيع على انقلاب أغسطس، تردّى الوضع الاقتصادي في الاتحاد لدرجة اضطرّ غورباتشوف الى أخذ وزير الخارجية الألماني هانس- ديتريخ جينسشير الذي كان يزور موسكو، جانباً وأن يقول له بكل تجرّد متنازلاً بذلك عن كرامته: نحتاج إلى المال لتغطية النفقات الجارية، وكي نستمرّ في الاستيراد في الوقت الذي تجري فيه المفاوضات حول إعادة هيكلة ديوننا القصيرة المدى. أنوي اليوم مناقشة هذه المسألة مع كول على الهاتف.
جينسشير: لا يجدر بك أن تعالج مثل هذه المسألة في مكالمة. أستطيع أن أرسل إلى المستشار برقية مشفّرة كي يقرأها.
غورباتشوف: نحتاج إلى ملياريْ دولار. لعلكم تستطيعون تسليفنا نصف مليار من الدفعات التي عليكم أن تدفعوها لنا في أكتوبر، وسنأخذ نصف المليار الثاني من احتياطاتنا. نأمل في أن نحصل على المليار الثاني من الشرق الأوسط الذي أرسلت إليه بريماكوف (نائب رئيس جهاز الكي جي بي) لتنفيذ هذه المهمة.
جينسشير: لست مخولاً للإجابة عن طلبك هذا، لكني سأنقل كل ما قلته إلى المستشار.
أرسل كول كوهلر إلى موسكو. والتقى غورباتشوف، الذي بدأ باستعراض سيناريوهات مرعبة على ضوء دعم الغرب المتردد له، كوهلر في 12 سبتمبر.
غورباتشوف: ماذا حصل مع المساعدة المالية المخصصة للاتحاد السوفياتي؟ إننا نتفاوض، وندرس الخيارات. هذا التأخير غير مبرّر. يذكرنا هذا الوضع بجمهورية ويمار في ألمانيا. ففي حين كان الديمقراطيون مختلفين في ما بينهم، وصل هتلر إلى السلطة من دون أي جهد. الدول الأجنبية مدينة لنا بما يقارب الـ86 مليار دولار.
كوهلر: فوّضني المستشار بمهمة إعلامك أننا وافقنا على الطلب الأول الذي يشتمل بصورة خاصة على تأمين مليار مارك ألماني. أما في ما يتعلّق بطلب المليار الثاني، فليس لدينا خيار سوى إشراك شركائنا في الاتحاد الأوروبي وفي قمة الدول السبع.
غورباتشوف: ألا تستطيعون إيجاد طريقة ما لمنحنا قروضاً بشروط أنسب؟ أو ربما منحنا قروضاً لا فائدة عليها؟
كوهلر: سأحاول إقناع شركائي بأن بلادك لا تزال تتمتّع بالجدارة الائتمانية. لكن لتحقيق هذا الهدف، أحتاج إلى معلومات عن دين بلادك الخارجي وعن إمكان بيع احتياطها من الذهب.
غورباتشوف: أرقام الحصاد لهذا العام لم تكن جيدة. لقد تحدّثت إلى الرئيس الكازاخستاني نور سلطان نازابرباييف قبل وصولك إلى موسكو. وأخبرني أن الحصاد في المنطقة المستصلحة حديثاً قد سجل رقماً متراجعاً جداً.
كوهلر: وفقاً للوكالات الأميركية، سيبلغ الحصاد في بلادك 190 مليون طن من القمح هذا العام مقارنة بـ230 مليون العام الماضي. الفرق بين الرقمين هائل.
غورباتشوف: سنفرح لو بلغ حصاد القمح 180 طناً هذا العام… خلال حرب الخليج (التي تلت اجتياح صدّام للكويت)، تضامنت كل الدول وجمعت مبالغ مالية ضخمة لدعم الجهد وصلت إلى 100 مليار دولار. لكن عندما يتعلّق الأمر بدعم هذا المسار التاريخي في بلاد كبيرة مثل روسيا، هذا المسار الذي يعتمد عليه مصير كل شيء في العالم، تجدنا مضطرّين إلى المساومة.
كوهلر: فاز الأميركيون بتلك الحرب من دون أن يدفعوا دولاراً واحداً من مالهم الخاص.
غورباتشوف: وماذا عن كل الأمور التي فعلها الاتحاد السوفياتي للعالم؟ ما الجهة التي تحسب هذه الأرقام؟ كم من المال وفّرت عملية البريسترويكا التي أطلقناها وطريقة تفكيرنا الجديد؟ لقد وفّرت على باقي دول العالم مئات المليارات من الدولارات!
كوهلر: إنها مسألة أسابيع بل حتى أيام. كمنت إحدى الحسابات الخاطئة في البريسترويكا التي أطلقتها في التقليل من شأن الجانب الاقتصادي لهذه المسألة.
رسالة غورباتشوف إلى بون
لكن خطة ضخّ المليارات في موسكو بمساعدة ألمانيا وبالتالي إنقاذ غورباتشوف، لم تنجح. عندما أكد الأوكرانيون إعلان استقلال دولتهم في الاستفتاء الذي جرى في 1 ديسمبر 1991 وانتخبوا رئيساً للجمهورية. وبعد مرور سبعة أيام، شكلت روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا رابطة الدول المستقلّة التي انضمّت إليها آنذاك ثماني جمهوريات غير سلافية. فكان الاتحاد السوفياتي في طور التصفية. وكانت ألمانيا تحتفل بعيد الميلاد عندما أقدم غورباتشوف على تقديم استقالته في 25 ديسمبر. فبعث برسالة إلى بون في اليوم نفسه كتب فيها:
عزيزي هيلموت!
على رغم أن الأحداث لم تجر بالطريقة التي شعرت بأنها ستكون صحيحة والأكثر نفعاً، لم أفقد الأمل في أن الجهود التي بدأتها منذ ستة أعوام ستعطي ثمارها في نهاية المطاف، وفي أن روسيا وسائر الدول التي أصبحت اليوم جزءاً من مجتمع جديد ستحوّل نفسها إلى دول حديثة وديمقراطية.
من كل قلبنا، نتمنّى رايسا وأنا لهانيلور (كوهل) ولكل عائلتك، الصحة والازدهار والسعادة.
صديقك ميخائيل
في هذه الرسالة، عاد غورباتشوف ليظهر كرجل دولة بكل ما لهذه الكلمة من معنى. وهذا ما يفسر لماذا كانت هذه الرسالة من جملة الأوراق القليلة العائدة الى عام 1991 المصيري التي نشرها لاحقاً المصلح الذي لم يفلح في عملية إصلاحه.